Tuesday, September 23, 2014

الإعجاز التشريعي في الميراث

الإعجاز التشريعي في الميراث
مقدمة:
المال من أساسيات الحياة، بل هو قوام الحياة، قال تعالى: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً﴾ [النساء: 5]، وهو وسيلة لا غاية، فالتعامل بين الناس إنما يكون به، من بيع وشراء وغيره، أما إذا استعمل في غير الوجه الصحيح فإنه يكون شرّاً ووبالاً على الناس وخاصة إذا كان غاية.
ومع ذلك فإن المال نعمة من نعم الله، ولذلك وجب على الإنسان أن يسعى في تحصيله، ووردت نصوص في الحث علىتحصيله منها قوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص: 77].
ومن الحديث ورد الكثير، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «ما كسب الرجل كسباً أطيب من عمل يده»(1).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الفقر، فمن دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت»(2).
وإن الدنيا كلها بجميع ما فيها من مال ومتاع ليست شيئاً بجانب ما في الآخرة من رضوان الله ونعيمه، وجاء التمثيل في القرآن والسنة الذي يحطّ من شأن الدنيا، والذي يجعل المرء لا يحرص حين يجيء أجله على أن يترك كل ما يملكه لأبنائه وحدهم، بل يتركه كما قسمه الله للأسرة كلها، ولم يفصّل القرآن حكماً من الأحكام الشرعية كما فصّل الميراث، كما نجد القرآن من ناحية ثانية يغرس في نفوسنا حقيقة أخرى، وهي أن هذا المال ليس ملكاً لنا حقّاً، بل هو مال الله جعله ودائع بين أيدينا إلى آجال محدودة حتى نجعل منه حقّاً للسائل والمحروم، قال تعالى: ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ [النور: 33].
وقال تعالى: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: 7]، وإذا كان المال الذي بين أيدينا لله سبحانه وتعالى وأننا مستخلفون فيه، فإنه لا يجوز لنا أن نبذّره، وأن نضعه في غير مواضعه، ولذا فقد حجر على المبذّرين والمسرفين، ومنعوا من تصرفاتهم قال تعالى: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً﴾ [النساء: 5].
وإذا مات الإنسان وترك مالاً فإنه يجب أن يؤول إلى أعز الناس إليه وهم فروعه وأصوله، وحواشيه، وأقرباؤه. ولذلك فإن نظام الميراث في الشريعة الإسلامية يفتت الثروة العامة ولا يجعلها مكدسة بين أيدي الناس دون الآخرين.
وقد اشتمل علم المواريث في الإسلام على حِكم كثيرة، وفوائد عظيمة، مما جعل التشريع الإسلامي رائداً في هذا المجال، ولم يسبقه أي تشريع أو قانون في هذه الدقة والتقدير الذي يبهر العقول المستنيرة، ويجعل النفوس تتقبل هذه القسمة الإسلامية في الميراث براحة نفس وطيب خاطر.
وفي هذا البحث سنتكلم عن بعض وجوه الإعجاز التشريعي في المواريث، وقبل ذلك سنعرض الآيات التي تكلمت عن الميراث وقسمته، وكذلك الأحاديث النبوية التي أخبرت عن الميراث ووضحت صوراً من القسمة في بعض الحالات، وبعد ذلك سنذكر شيئاً من الحِكم البالغة في قسمة الشريعة الإسلامية لهذا الميراث.
الآيات الواردة في المواريث:
جاءت آيات في كتاب الله تعالى تتحدث عن المواريث وكيفية قسمتها بين ورثة الميت، وهذه الآيات هي:
1- قول الله تعالى: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً﴾ [النساء: 7]، وهذه الآية قررت أن للذكور من أولاد الرجل الميت حصة من ميراثه وللإناث منهم حصة منه من قليل ما خلف بعده وكثيره، حصة مفروضة واجبة معلومة مؤقتة، وذكر أن هذه الآية نزلت من أجل أن أهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث، وقال ابن زيد: كان النساء لا يورثن في الجاهلية من الآباء، وكان الكبير يرث، ولا يرث الصغير وإن كان ذكراً، ويقولون: لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل وطاعن بالرمح وضارب بالسيف وحاز الغنيمة، فقال الله تبارك وتعالى: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً﴾.
وقيل أنها نزلت في أم كحلة وابنتها كحلة وثعلبة وأوس بن سويد، وهم من الأنصار كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها، فقالت: يا رسول الله توفي زوجي وتركني وابنته فلم نورث!، فقال عم ولدها: يا رسول الله لا تركب فرساً ولا تحمل كلاً ولا تنكي عدواً يكسب عليها ولا تكتسب! فنزلت هذه الآيات(3).
وجاء في سبب نزول هذه الآية قصص مشابهة، كلها تدور حول عدم توريث النساء والأطفال شيئاً من الميراث، وذلك على عادة الجاهلية.
2- ويقول سبحانه وتعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً * وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ [النساء: 11-12].
جاء في هاتين الآيتين بعض أنصبة الوارثين، وأن القسمة لا تتم إلا بعد إخراج الديون التي للناس على الميت، وإنفاذ الوصية فيما لا يتجاوز الثلث، ومن هولاء الورثة الأولاد جميعاً، فقد أعطي الذكر ضعف ما للأخت الأنثى، ولم تغفل الآية نصيب الوالدين، وفي الآية التي بعدها جاء بيان نصيب الزوج والزوجة، وأنه يختلف باختلاف حال الميت، وذلك بأن يكون له ولد أو لا ولد له على قيد الحياة، وهولاء الستة الأصناف -وهم الابن والابنة والأب والأم والزوج والزوجة- لا بد لهم من نصيب في مال الميت، ولا يمكن حجبهم بحال من الأحوال، ثم جاء الإخبار عن الكلالة، وهو الميت الذي يموت وليس له أصل أو فرع وارث، أي ليس له والد أو والدة وإن علو على قيد الحياة، وليس له أولاد أو أولاد أولاد على قيد الحياة، ففي هذه الحالة إن كان للميت إخوة من الأم فإنهم يرثونه، وتكون القسمة بالتساوي بين الأخ لأم والأخت لأم.
3- ويقول الله تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [النساء: 176].
بينت هذه الآية حالة الكلالة إن مات وكان له إخوة أشقاء، أي إخوة من أبيه وأمه، فإن الميراث يؤول إليهم، وهنا يكون نصيب الأخ الشقيق ضعف نصيب الأخت الشقيقة.
الأحاديث الواردة في المواريث:
وردت بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لبيان مسائل في علم المواريث، وهي:
1. ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر»(4).
2. وعن قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه تسأله ميراثها، فقال: ما أعلم لك في كتاب الله شيئاً ولا أعلم لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيء حتى أسأل الناس، فسأل، فقال المغيرة بن شعبة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل لها السدس، فقال من يشهد معك أو من يعلم معك؟، فقام محمد بن مسلمة فقال مثل ذلك فانفذه لها(5).
3. وعن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يرث المؤمن الكافر، ولا يرث الكافر المؤمن»(6).
وجاء في رواية أخرى بلفظ آخر فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتوارث أهل ملتين شتى»(7).
الإعجاز التشريعي في علم المواريث:
من المعلوم أن الإسلام جاء يرسم للبشرية منهج حياة فيه رشدها وصلاحها، والناظر المدقق في أحكام الإسلام وتشريعاته يجدها في حالة من الدقة والتوازن، وعدم التناقض، والحكمة، وتحقيق العدالة والشمول والواقعية، مما يجعل الإنسان يقطع بأن هذه الأحكام ليست من عند أحد من البشر؛ لأن ما يضعه البشر يتطرق إليه الخلل والتناقض، فيحتاج دوماً للتعديل وإعادة النظر فيه، والتاريخ الإنساني يشهد بهذا الأمر.
إن التشريعات المتعلقة بالميراث تعالج قضية مهمة في الواقع الإنساني، حيث أنها تعالج قضية مالية، والمال تشتد المنافسة في طلبه والحرص عليه، وكثيراً ما تقع فيه الخصومة. وإن الورثة هم أقرب الناس لبعضهم البعض، والشريعة تحرص في مجمل أحكامها على دعم العلاقة الاجتماعية في حياة المجتمع المسلم لاسيما بين الأقارب، وتحرص على عدم الخصومة والعداوة والشحناء بينهم.
ولما كان الأمر كذلك من أهمية هذا العلم؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد تولى بيانه بنفسه، فجاءت معظم أحكامه الأساسية في سورة النساء مفصلة كما سبق ذكره في الآيات السابقة، وهذا التفصيل على خلاف المعهود من المنهج القرآني الذي يتناول الأحكام كثيراً بالإجمال ويترك للسنة البيان والتفصيل، فأحكام الصلاة والزكاة والصيام لا نجدها مفصلة في كتاب الله كما فصلت أحكام المواريث، وكل ذلك مشعر بمدى اهتمام التشريع الإسلامي بأحكام المواريث، فكانت هذه الأحكام متصفة بالعدالة والدقة والواقعية والتوازن والانسجام والتكامل بين أحكامها بما يشير إلى ربانيتها.
وسنشير في هذا البحث إلى شيء من وجوه الإعجاز التشريعي في علم المواريث:
1. موافقة أحكام الميراث ومسايرتها للفطرة البشرية:
إن مما تتسم به الشريعة الإسلامية هو سعيها لتحقيق صلاح الإنسان ودفع الفساد عنه في دنياه وأخراه، وهذه هي مقاصدها وغايتها، فالشريعة جاءت للأخذ بيد الإنسان على درب الله تعالى، ورفع العنت والحرج عنه، قال تعالى: ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].
ويقول تعالى أيضاً: ﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185].
لذا فإن الشريعة الإسلامية في أحكامها تساير فطرة الإنسان التي فطره الله عليها، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون﴾ [الروم: 30].
فأحكام الشريعة لا تتناقض مع هذه الفطرة ولا تحاربها أو تكبتها، بل توجهها وترعاها بما فيه الصلاح والفلاح للإنسان في دنياه وأخراه(8).
وهذه المبادئ العامة للتشريع الإسلامي نجدها جلية في أحكام المواريث؛ التي راعت حب الإنسان للمال والولد، كما أخبر الله تعالى بذلك حيث قال: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الكهف: 46].
فالإنسان يحب المال، ويحب جمعه، ويحب أن ينتقل إلى فرعه، هذا الحب هو الذي يولد الدافع لدى الإنسان للعمل، والكدح و إعمار الأرض، ولولا ضمان التشريع لانتقال ما يجمع المرء من مال عبر جهده المتواصل في الحياة إلى ورثته من بعده -وأولى الورثة وأهمهم أبناؤه- لولا ذلك لتقاعس الكثير من الناس عن المضي في إعمار الحياة والكدح فيها، بما ينذر بتراجع الحياة الإنسانية، وضعف الأمم، فاحتياجات الإنسان الشخصية للمال محدودة، فإذا جمع المرء من المال ما يكفيه في الحياة-ولو عاش ضعف عمره- فما الذي يدفعه إلى مزيد من الجهد والعطاء ومن ثم الكسب. لذا فإن الإسلام قد أثبت حق الملكية للفرد، فهذا أمر فطري جبل عليه الإنسان، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾ [يس: 71].
فالآية فيها إثبات لحق التملك لدى الفرد، إضافة لذلك فقد شرعت الشريعة الإسلامية من الأحكام ما فيه حفظ لحقوق الناس المالية ولأملاكهم، فحرمت الشريعة الغش والاحتيال وأكل أموال الناس بالباطل(9).
من هنا فقد كانت في أحكام المواريث ملاحظة ومسايرة لفطرة الإنسان، وما جبل عليه، فكانت هذه الأحكام لا تقعد الإنسان عن المضي في إعمار الحياة وبنائها، بل تفجر فيه الطاقة، وتبعث فيه الهمة، وتستثمر فيه قدرته على العطاء لنفسه ولأمته، وبناء الحياة الإنسانية بما يتقدم بها على درب سعادة الإنسان. فكانت أحكام المواريث لا ترعى حق الورثة فحسب، بل ترعى حق المورث وتنسجم مع عواطفه ومشاعره، كل ذلك بما يعود على المجتمع بأسره بالخير.
وفي هذا يقول مؤلف كتاب (الإسلام ومبادؤه الخالدة): إنك لو تأملت في حكمة الإسلام في احترام الملكية الفردية، ووضع القواعد العامة للمواريث لعرفت أن هذا من أكبر الدوافع التي تحفز الممولين إلى قوة الاستثمار والنشاط والإنتاج، ويدعو إلى السهر على المصالح وبذل الجهود القوية في تكثير الأموال، وهو في الوقت نفسه يحمي هذه الأموال من أن تعبث بها يد السرف والتبذير، فالرجل الذي يعرف أن الأموال التي بذل في جمعها صحته وعقله، ستصير بعد ذلك إلى الدولة لا ينتفع بها بنوه بطريق مباشر ليس هناك ما يحفزه إلى ادخارها ويدفعه إلى المحافظة عليها(10).
وهذه التشريعات التي تلاحظ كافة الاعتبارات على جهة لا تترك تداعيات سلبية، بل كافة آثارها إيجابية، ومحققة للخير، لابد أن تكون من وضع إله حكيم خبير بعباده. وهذا الأمر يمكن تصوره في الأذهان إذا ما التفتنا إلى بعض التشريعات الوضعية التي لم تأخذ بعين الاعتبار عواطف ومشاعر وفطرة الإنسان، وأكبر الشواهد على ذلك هو النظام الماركسي الذي ألغى حق التوارث بإلغاء الملكية الفردية أصلاً، فتهاوى هذا النظام وانهار، وكانت مصادمته للفطرة ذات أثر سلبي لا على الفرد فحسب بل تعداه إلى المجتمع بأسره، وقد شاهدنا جميعاً كيفية انهيار النظام الشيوعي انهياراً سريعاً دفعة واحدة؛ لأنه قد دُمر من داخله، بما يحتوي من أنظمة وتشريعات تتناقض والفطرة التي فطر الله الإنسان والحياة عليها(11).
2. الميراث يمنع من تكديس المال في أيدٍ قليلة:
قلنا سابقاً أن الإسلام استجاب للفطرة البشرية في مسألة الملكية الفردية، وقد يعترض معترض فيقول أن الملكية الفردية قد تكون سبباً في تركز الثروة في أيدٍ قليلة، وهذا سيكون له أثر كبير في تسلط طائفة غنية من الناس على باقي الطوائف الفقيرة، وهذا الأمر مشاهد وملموس في المجتمعات الرأسمالية.
إننا نقول لهذا المعترض: إن الإسلام لم يهمل هذه المسألة، بل تنبه لها قبل أي أحد من الناس، ولهذا فإنه أوجد نظام التوريث للمال وبحصص محددة لكل واحد من الورثة، وبذلك فهو يمنع من تكديس الأموال في أيدٍ قليلة، ويمنع من ظهور مفاسد نظام الطبقات، وتجمع الثروة، فوزعها تحت رعاية أحكام الإرث بين ورثة الميت من الذكور والإناث، ولم يجعلها ملكاً للولد الأكبر بعكس ما قضى به قانون الإرث في بعض الدول المدعية التمدن والتقدم فجعلها للولد الأكبر وجعل الثروة مكدسة في يد واحد من الورثة.
وبذلك نرى الإنسان الذي يجمع الثروة الكبيرة وتتضخم لديه الأموال، نرى ثروته وقد تقسمت بعد موته على أصوله وفروعه وحواشيه، وتحولت هذه الثروة إلى قطع أصغر من ذي قبل، وذلك عبر قسمة بسيطة تتوافق مع الفطرة البشرية، وتمنع من تكديس الأموال في أيدٍ أفراد قلائل.
3. الموازنة بين قوة القرابة والحاجة للمال:
إن أحكام الشريعة أحكام متوازنة ومتكاملة، وهي أيضاً أحكام عادلة، وتظهر هذه العدالة والدقة والتوازن بصورة جلية وظاهرة في تقسيم الشريعة للميراث، فقد راعت الشريعة في ذلك القرابة، فأقرباء الميت هم أولى الناس به وبميراثه، فقد كان الميراث في بداية التشريع يعطى للذين بينهم عقد مؤاخاة، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾ [الأنفال: 72].
يقول ابن كثير: ﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾ أي كل منهم أحق بالآخر من كل أحد، ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار كل اثنين أخوان، فكانوا يتوارثون بذلك إرثاً مقدماً على القرابة حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث(12)، ثم نسخت الشريعة هذا الحكم الذي نزل لعلاج حالة خاصة في ذلك الوقت وهي سد حاجة المهاجرين الذين تركوا الأموال والمتاع خلفهم في مكة، ولتعميق عقد المؤاخاة فيما بينهم، وبعد نسخه صارت القرابة هي السبب الأول في الميراث، يقول الله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً﴾ [الأحزاب: 6].
جاء في تفسير الجلالين: ﴿وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ﴾ [الأحزاب:6] ذوو القرابات، ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾في الإرث،﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾ أي من الإرث بالإيمان والهجرة الذي كان أول الإسلام فنسخ، ﴿إِلَّا﴾ لكن، ﴿أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا﴾ بوصية فجائز، ﴿كَانَ ذَلِكَ﴾ أي نسخ الإرث بالإيمان والهجرة بإرث ذوي الأرحام، ﴿فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا﴾[الأحزاب:6] وأريد بالكتاب في الموضعين اللوح المحفوظ(13).
وراعت الشريعة في مسألة القرابة عدة أمور، والمتأمل في هذه الأمور يجد الإعجاز التشريعي يتلاحق ويتكرر مرة بعد مرة.
وهذه الأمور التي راعتها الشريعة في القرابة هي:
أ‌- الجهة: فيقدم الوارث من الجهة الأقرب على الوارث من الجهة الأبعد، فمثلاً تقدم جهة البنوة على جهة الأخوة.
ب‌- الدرجة: إذا اتفق أكثر من وارث في الدرجة نفسها، فإن التقديم والمفاضلة بينهما تكون على أساس الدرجة، فعلى سبيل المثال الابن وابن الابن في درجة واحدة وهي البنوة، فعند ذلك نقدم الأقرب درجة وهو الابن، ومثل ذلك تقديم الأب على الجد.
ج‌- قوة القرابة: فيقدم الأقوى قرابة على غيره، فمثلاً يقدم الأخ الشقيق (من الأب والأم) على الأخ لأب، ويقدم العم الشقيق على العم لأب.
ومن هذا الإعجاز تقديم الابن على الأب، وقد يقول قائل كيف يقدم ابن الميت على أب الميت، والأب هو صاحب الفضل على ابنه وليس العكس، وصاحب الفضل أولى ممن لا فضل له، وقد جاءت النصوص المتعددة التي تحث على البر بالوالدين وتقديمهم على كل أحد في الطاعة -إلا على الله سبحانه فلا يقدم عليه أحد في الطاعة- فينبغي أن لا يقدم عليهم أحد. ورداً على هذا القول وتوضيحاً لجانب الإعجاز التشريعي في مسألة تقديم الابن على الأب نقول:
إننا إذا دققنا النظر في هذا الأمر سنلاحظ أن تقديم الابن على الأب أمر وجيه؛ فتقديم الأب على الابن في الميراث يترتب عليه أن ينتقل ما يرثه -أي الأب- ليكون ميراثاً لأبنائه، أي حواشي ابنه الميت، وهذا معناه أن ينتقل الميراث لجهة الإخوة، مع أن الأبناء أولى به، وهذا يتناقض مع مبدأ تقديم الأقرب في الميراث، وأيضاً سيتناقض مع فطرة الإنسان في حبه لجمع المال؛ لينتقل بعد موته إلى أبنائه وأحفاده(14).
ثُم إن الأب مدبر عن الحياة والابن مقبل عليها؛ فكانت حاجته إلى المال أكبر من حاجة الأب، فالأجيال المقبلة على الحياة والمؤهّلة لتحمّل المسؤولية يكون نصيبها في الميراث أكثر من الأجيال الّتي بلغت سنّا كبيرا، وقلّ إنتاجها. وكل هذه الأمور تجعلنا ندرك من خلالها أن الشريعة لاحظت جملة من الحقائق لتقرر منهجاً متوازناً، يحفظ الحقوق، ويراعي الفطرة، ويحقق العدل في أدق معانيه(15).
ومن أشهر الاعتراضات على نظام الإرث في الإسلام، ادعاء البعض أن المرأة مظلومة؛ لأن للذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا الادعاء ادعاء باطل، وينبئ عن جهل صاحبه، فنظام الإرث في الإسلام نظام مثالي، فهو إذ يقرر للمرأة نصف نصيب الرجل، فإنه قد حقق العدالة الاجتماعية بينهما.
فالمرأة قديمـًا كانت تباع وتشترى، فلا إرث لها ولا ملك، وأن بعض الطوائف اليهودية كانت تمنع المرأة من الميراث مع إخوتها الذكور، وإن الزوجة كانت تباع في إنجلترا حتى القرن الحادي عشر، وفي سنة 1567م صدر قرار من البرلمان الاسكتلندي يحظر على المرأة أن يكون لها سلطة على شيء من الأشياء.
أما عرب الجاهلية فقد وضعوا المرأة في أخس وأحقر مكان في المجتمع، فكانت توأد طفلة وتُورَث المرأة كما يورث المتاع، وكانوا لا يورثون النساء والأطفال، حيث كان أساس التوريث عندهم الرجولة والفحولة والقوة، فورثوا الأقوى والأقدر من الرجال على الذود عن الديار؛ لأنهم كانوا يميلون إلى الفروسية والحرب، وكانوا أهل كر وفر وغارات من أجل الغنائم.
إن الإسلام عامل المرأة معاملة كريمة وأنصفها بما لا تجد له مثيلاً في القديم ولا الحديث؛ حيث حدد لها نصيبـًا في الميراث سواءً قل الإرث أو كثر، حسب درجة قرابتها للميت، فالأم والزوجة والابنة، والأخوات الشقيقات والأخوات لأب وبنات الابن والجدة، لهنَّ نصيب مفروض من التركة، قال تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً﴾ [النساء: 7].
وبهذا المبدأ أعطى الإسلام منذ أربعة عشر قرناً حق النساء في الإرث كالرجال، أعطاهنَّ نصيبـًا مفروضـًا، وكفى هذا إنصافـًا للمرأة حين قرر مبدأ المساواة في الاستحقاق، والإسلام لم يكن جائرًا أو مجاوزًا لحدود العدالة، ولا يحابي جنسـًا على حساب جنس آخر حينما جعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل، كما في قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾ [النساء: 11].
فالتشريع الإسلامي وضعه رب العالمين الذي خلق الرجل والمرأة، وهو العليم الخبير بما يصلح شأنهم من تشريعات، وليس لله مصلحة في تمييز الرجل على المرأة أو المرأة على الرجل، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15].
فقد حفظ الإسلام حق المرأة على أساس من العدل والإنصاف والموازنة، فنظر إلى واجبات المرأة والتزامات الرجل، وقارن بينهما، ثم بيّن نصيب كل واحد.
فمن العدل أن يأخذ الابن "الرجل" ضعف الابنة "المرأة" للأسباب التالية:
1- فالرجل عليه أعباء مالية ليست على المرأة مطلقـًا، فالرجل يدفع المهر، يقول تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ [النساء: 4]، أي وأعطوا النساء مهورهن عطية واجبة وفريضة لازمة(16)، وعن طيب نفس، والمهر حق خالص للزوجة وحدها لا يشاركها فيه أحد فتتصرف فيه كما تتصرف في أموالها الأخرى كما تشاء متى كانت بالغة عاقلة رشيدة.
2- والرجل مكلف بالنفقة على زوجته وأولاده؛ لأن الإسلام لم يوجب على المرأة أن تنفق على الرجل ولا على البيت حتى ولو كانت غنية إلا أن تتطوع بمالها عن طيب نفس، يقول الله تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا…﴾ [الطلاق: 7]، وقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 233].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع عن جابر رضي الله عنه: «اتقوا الله في النساء فإنهنَّ عوان عندكم أخذتموهنَّ بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهنَّ عليكم رزقهنَّ وكسوتهنَّ بالمعروف»(17)، فمال الرجل مستهلك، ومال المرأة موفور.
3- والرجل مكلف أيضـًا بجانب النفقة على الأهل بالأقرباء وغيرهم ممن تجب عليه نفقته، حيث يقوم بالأعباء العائلية والالتزامات الاجتماعية التي يقوم بها المورث باعتباره جزءًا منه أو امتدادًا له أو عاصبـًا من عصبته، ولذلك حينما تتخلف هذه الاعتبارات كما هي الحال في شأن توريث الإخوة والأخوات لأم، نجد أن الشارع الحكيم قد سوَّى بين نصيب الذكر ونصيب الأنثى منهم في الميراث، قال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ [النساء: 12].
فالتسوية هنا بين الذكور والإناث في الميراث؛ لأنهم يدلون إلى الميت بالأم، فأصل توريثهم هنا الرحم، وليسوا عصبةً لمورثهم حتى يكون الرجل امتداداً له من دون المرأة، فليست هناك مسؤوليات ولا أعباء تقع على كاهله. بينما المرأة مكفية المؤنة والحاجة، فنفقتها واجبة على ابنها أو أبيها أو أخيها شريكها في الميراث أو عمِّها أو غيرهم من الأقارب.
مما سبق نستنتج أن المرأة غمرت برحمة الإسلام وفضله فوق ما كانت تتصور، فبالرغم من أن الإسلام أعطى الذكر ضعف الأنثى، فهي مرفهة ومنعمة أكثر من الرجل؛ لأنها تشاركه في الإرث دون أن تتحمل تبعات، فهي تأخذ ولا تعطي وتغنم ولا تغرم، وتدخر المال دون أن تدفع شيئـًا من النفقات أو تشارك الرجل في تكاليف العيش ومتطلبات الحياة، ولربما تقوم بتنمية مالها في حين أن ما ينفقه أخوها وفاءًا بالالتزامات الشرعية قد يستغرق الجزء الأكبر من نصيبه في الميراث.
وتفوق الرجل على المرأة في الميراث ليس في كل الأحوال، ففي بعض الأحوال تساويه، وفي بعض الأحيان قد تتفوق المرأة على الرجل في الميراث، وقد ترث الأنثى والذكر لا يرث.
والمرأة لا تحصل على نصف نصيب الرجل إلا إذا كانا متساويين في الدرجة، والسبب الذي يتصل به كل منهما إلى الميت، فمثلاً: الابن والبنت، أو الأخ والأخت، يكون نصيب الرجل هنا ضعف نصيب المرأة، قال تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن﴾ [النساء: 11].
وقال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [النساء: 176].
وهناك حالات ميراث للمرأة تخالف قاعدة "للذّكر حظّ الأنثيين"، وإننا نلاحظ أن الفقه الإسلامي في باب الفرائض حدّد أربعاً وثلاثين حالة من أحوال الميراث ترث فيها المرأة بنسب مختلفة:
أ‌- عشر حالات ترث المرأة مثل الرّجل.
ب‌- عشر حالات أخرى ترث المرأة فيها أكثر من الرّجل.
ج‌- عشر حالات تحجب المرأة فيها الرّجل وتأخذ الإرث كاملاً.
د‌- أربع حالات فقط وهي التي يكون فيها للذّكر مثل حظّ الأنثيين.
أولاً: أمثلة على مساواة المرأة للرجل في الميراث:
- ميراث الأب والأم، لكل واحد منها السّدس لقوله تعالى: ﴿وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ [النساء: 11]، فإذا توفّي شخص وترك أباً وأمّاً وابناً فيكون نصيب الأب السّدس فرضاً لوجود الفرع الوارث وهو الابن، وترث الأم السّدس فرضاً لوجود الفرع الوارث، والابن يأخذ الباقي تعصيباً.
- ميراث الإخوة للأم سواء بين الذّكور والإناث فالذّكر يأخذ مثل الأنثى عند فقدان الفرع الوارث؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ [النساء: 12].
ثانياً: المرأة ترث أكثر من الرّجل:
في بعض حالات الميراث نجد أن المرأة ترث أضعاف الرّجل حسب قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ [النساء: 11]، ومن الأمثلة على ذلك:
- مات شخص وترك بنتاً وأباً، فيكون نصيب الأب السّدس، وهو أقل بكثير من نصيب البنت أو البنات، ومع ذلك لم يقل أحد إن كرامة الأب منقوصة بهذا الميراث.
- مات شخص وترك بنتاً وأخوين شقيقين، فالبنت لها النصف لانفرادها، ولعدم وجود من يعصبها، والأخوان الشقيقان يأخذان الباقي تعصيبـًا بالتساوي بينهما، فيكون نصيب كل أخ شقيق الربع، وهنا يكون نصيب الرجل أقل من الأنثى.
- مات شخص عن بنتين، وعمّين شقيقين، فالبنتان ترثان الثلثين فرضاً لتعدّدهنّ، ولعدم وجود من يعصبهن، بالتّساوي بينهما، فكل واحدة لها الثلث، والعمان الشقيقان يأخذان الباقي تعصيبـًا، فيكون نصيب كل عم السدس، وهنا يكون نصيب الذكر أقل من الأنثى.
- إذا ماتت امرأة ولها زوج وابنة، ترث البنت النصف ويرث الزوج الربع، فالبنت ترث ضعف ما يرث أبوها.
ثالثاً: حالات ترث فيها المرأة ولا يرث فيها الرجل:
هناك حالات ترث فيها المرأة ولا يرث فيها الرّجل وهذه بعض الأمثلة:
- مات شخص عن ابن وبنت وأخوين شقيقين، فالابن والبنت يأخذان التركة كلّها، ويكون للذّكر مثل حظ الأنثيين، والأخوان الشقيقان لا يرثان شيئاً فقد حجبهما الفرع الوارث، فترث البنت ولا يرث الأخ الشقيق.
- مات رجل عن (أم أم) و(أب أم) يعني جدّة لأمّه وجدّ لأمّه، فهنا ترث أم أمّه كل التركة وتعرف في علم المواريث بالجدّة الصحيحة، أي أنها ترث السّدس فرضاً، والباقي ردّا، ولا شيء لجدّه للأم وهو زوجها رغم أنّه في درجتها بالنسبة للمتوفّى، وترث النصيب كلّه لأنها من أصحاب الفروض والجدّ من أصحاب الأرحام، وأصحاب الأرحام لا يرثون مع أصحاب الفروض.
- مات شخص عن بنت وأخت شقيقة، وترك أخاً لأب، وابن أخ شقيق وابن أخ لأب وعماً وابن عم، فإن الأخت الشقيقة مع البنت عصبة مع الغير في قوة الأخ الشقيق، تحجب ما يحجبه الأخ الشقيق، فتحجب كل هؤلاء الرّجال، وهكذا ترث البنت النصف فرضاً وترث الأخت الشقيقة النصف فرضاً ولا يرث الأخ لأب ولا أبناء الأخوة ولا الأعمام ولا أبناء الأعمام، وكلّهم ذكور(18).
وهذه ما هي إلا بعض الأمثلة على إنصاف الإسلام للمرأة، وقد شهد بذلك أهل العلم والإنصاف من المسلمين ومن غير المسلمين، يقول بعض الكتّاب: " لولا يقيني بأن الإسلام ينصف الناس جميعاً ويعدل بينهم، لقلت: إن الإسلام ينحاز إلى المرأة ويقف في صفها، ويؤثرها على الرجل". ويقول الأستاذ محمد رشيد رضا: " إن إعطاءهن نصف الميراث تفضيل لهن عليهم (يعنى الرجال) في أكثر الأحوال ". ولقد قال المفكر الغربي" غوستاف لوبون " عن ميراث المرأة في الإسلام: " إن مبادئ الميراث التي ينص عليها القرآن على جانب عظيم من العدل والإنصاف، ويظهر من مقابلتي بينها وبين الحقوق الفرنسية والإنجليزية أن الشريعة الإسلامية منحت الزوجات حقوقاً في الميراث لا نجد لها مثيلاً في قوانيننا "(19).
ثم إن القوانين المستحدثة لدى الغرب والتي ساوى بعضها مؤخراً في الميراث بين الرجل والمرأة جعل عليها من الأعباء والمسئوليات مثل ما على الرجل، وفي بعض الأحيان ما يفوقه مما تسبب للمرأة في تعاسة وشقاء كانت في غنى عنه، وربما يكون هذا الأمر منطقياً إذا ساووا بينهما في الميراث كما في الأعباء والمسئوليات.. يقول الأستاذ مصطفى السباعي: " أما أن نعفى المرأة من كل عبء مالي ومن كل سعي للإنفاق على نفسها وأولادها ونلزم الرجل وحده، ثم نعطيها مثل نصيبه في الميراث فهذا ليس أمراً منطقياً مقبولاً في شريعة العدالة ". إنه لا مجال للمطالبة بمساواة المرأة مع الرجل في الميراث إلا بعد مطالبتهما بمساواتهما في الأعباء والواجبات، إنها فلسفة متكاملة، فلا بد من الأخذ بها كلها أو تركها كلها. على أننا نفترض هذا الفرض مع الذين يناقشون أحكام الله، وإلا فشرع الله لا يقبل المساومة أو النقاش ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23].
ولكن وإن طبقت هذه الفلسفة فستكلف المرأة من المشقة ما ينبو عنه كاهلها، وتضيق به ذرعاً، خاصة وهي مختصة دون الرجل بالحمل والولادة والإرضاع والتربية والاهتمام بشئون البيت والأولاد فيا لرحمة الإسلام بالمرأة، ويا لقسوة المتشدقين بالمساواة عليها(20).
وبعد هذا السرد لهذه المسائل رأينا أن نظام التوريث الإسلامي تحكمه ثلاثة معايير:
أولها: درجة القرابة بين الوارث ذكرًا كان أو أنثى وبين المُوَرَّث المتوفَّى، فكلما اقتربت الصلة زاد النصيب في الميراث، وكلما ابتعدت الصلة قل النصيب في الميراث دونما اعتبار لجنس الوارثين.
وثانيها: موقع الجيل الوارث من التتابع الزمني للأجيال، فالأجيال التي تستقبل الحياة، وتستعد لتحمل أعبائها، عادة يكون نصيبها في الميراث أكبر من نصيب الأجيال التي تستدبر الحياة، وتتخفف من أعبائها، بل وتصبح أعباؤها - عادة- مفروضة على غيرها، وذلك بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة للوارثين والوارثات، فبنت المتوفى ترث أكثر من أمه -وكلتاهما أنثى- وترث البنت أكثر من الأب -حتى لو كانت رضيعة لم تدرك شكل أبيها، وحتى لو كان الأب هو مصدر الثروة التي للابن، والتي تنفرد البنت بنصفها!-، وكذلك يرث الابن أكثر من الأب -وكلاهما من الذكور-، وفى هذا المعيار من معايير فلسفة الميراث في الإسلام حِكَم إلهية بالغة ومقاصد ربانية سامية تخفى على الكثيرين، وهي معايير لا علاقة لها بالذكورة والأنوثة على الإطلاق.
وثالثها: العبء المالي الذي يوجب الشرع الإسلامي على الوارث تحمله والقيام به حيال الآخرين. وهذا هو المعيار الوحيد الذي يثمر تفاوتاً بين الذكر والأنثى، لكنه تفـاوت لا يفـضي إلى أي ظـلم للأنثى أو انتقاص من إنصافها، بل ربما كان العكس هو الصحيح.
ففي حالة ما إذا اتفق وتساوى الوارثون في درجة القرابة، واتفقوا وتساووا في موقع الجيل الوارث من تتابع الأجيال -مثل أولاد المتوفَّى، ذكوراً وإناثاً- يكون تفاوت العبء المالي هو السبب في التفاوت في أنصبة الميراث، ولذلك لم يعمم القرآن الكريم هذا التفاوت بين الذكر والأنثى في عموم الوارثين، وإنما حصره في هذه الحالة بالذات، فقالت الآية القرآنية: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن﴾ [النساء: 11]، ولم تقل: يوصيكم الله في عموم الوارثين، والحكمة في هذا التفاوت، في هذه الحالة بالذات، هي أن الذكر هنا مكلف بإعالة أنثى - هي زوجه-مع أولادهما، بينما الأنثـى الوارثة أخت الذكر إعالتها مع أولادها فريضة على الذكر المقترن بها، فهي مع هذا النقص في ميراثها بالنسبة لأخيها، الذي ورث ضعف ميراثها، أكثر حظًّا وامتيازاً منه في الميراث، فميراثها -مع إعفائها من الإنفاق الواجب- هو ذمة مالية خالصة ومدخرة، لجبر الاستضعاف الأنثوي، ولتأمين حياتها ضد المخاطر والتقلبات. وتلك حكمة إلهية قد تخفى على الكثيرين(21).
وبهذا يكون الإسلام قد قسم الميراث وفق موازنة دقيقة وعادلة، تتناسب وتوازن بين قوة القرابة والحاجة للمال، وفي هذا دليل واضح على عظمة التشريع الإسلامي وعدالته، ومهما حاول البشر أن يضعوا من قوانين وتشريعات فلن يصلوا إلى مثل هذه الدقة والتوازن.
4. الموازنة بين حق المورث وحق الورثة:
لقد قررت الشريعة حق الملكية الفردية كما سبق وأن ذكرنا ذلك، ومعنى هذا أن الإنسان يحق له التصرف المطلق في ماله، من دون أن يشاركه أحد في هذه الملكية لهذا المال.
ولكن الشريعة راعت في هذه الملكية أموراً أخرى، ومنها حق من سيؤول إليهم المال في المستقبل من الورثة، فجعلت الشريعة حقاً لهؤلاء، إلا أن هذا الحق لا يعطل تصرف صاحب المال في ماله، ولكنه يقيده بالرشد وعدم الإتلاف والإضاعة له فيما لا يعود بالنفع على الجميع. ومن هذا المنطلق جاء تشريع الحجر على السفيه، والسفيه هو الذي لا يحسن التصرف في ماله، وليس هذا البحث مجالاً لمناقشة أحكام الحجر على جهة التفصيل، وإنما الغرض هو بيان الإعجاز التشريعي في ذلك.
فإن التصرفات الطائشة في إنفاق المال تعرض هذا المال للزوال والفناء، وفي هذا تهديد للورثة، وتعريضهم للحاجة وسؤال الناس بعد موت هذا المسرف أو حتى في حياته، فجاء هذا التشريع ليوقف هذا المسرف عند حده، ويرده إلى الجادة، حتى يبقى هذا المال عماداً بيده وبيد من يأتي من بعده من الورثة.
ولا تقف العظمة في التشريع الإسلامي عند هذا الحد، بل تنطلق لتواصل مسيرة هذا الإعجاز، فنجد أن هذا الحكم يتأكد في حق الذي يوشك على الموت، حتى لو كان تصرفه في ماله تصرفاً سديداً، فجاء الإسلام بتشريع رائع في هذه المسألة، وهو تشريع يوافق بين هذين الحقين، بين حق صاحب المال وبين حق الورثة الذين يحتاجون هذا المال وتتطلع نفوسهم إليه، فصاحب المال قد يريد أن يستدرك تقصيره في بعض الحقوق التي في ذمته للآخرين، أو يريد أن يقدم معروفاً وعملاً صالحاً بين يديه؛ ليختم حياته بذلك العمل، ويلقى الله تعالى به.
وفي نفس الوقت يُخشى على الورثة من فوات هذا المال عليهم بهذه التصرفات الأخيرة للميت. فوازن الإسلام بين هذه الحقوق والحاجات، وقرر أن للميت الحق في قضاء كل الديون التي في ذمته للآخرين، حتى يبرئ ذمته بإرجاع هذه الحقوق إلى أصحابها، كما أن له الحق في التصرف في ثلث ماله فقط، فيوصي به لمن يشاء ما لم يكن هذا الموصى له وارثاً، وبالتالي بإمكان الميت أن يقدم بين يديه عملاً صالحاً، أو يمتن بهذا المال على إنسان عزيز سيكون بُعد القرابة مانعاً له من أخذ شيءٍ من التركة، أو أي تصرف آخر يناط بالمصلحة والسداد. وباقي المال وهو الثلثان يمنع فيه من التصرف ليكون نصيباً للورثة، الذين راعى الشارع حقهم في هذا المال، فقد جاء هذا الحكم مقرراً في كتاب الله تعالى وفي سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ [النساء: 12]، فقوله: ﴿غَيْرَ مُضَآرٍّ﴾ معناه: أي غير مدخلٍ الضرر على الورثة بأن يوصي بأكثر من الثلث(22).
وجاء في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا بمكة وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها، قال: «يرحم الله ابن عفراء، قلت: يا رسول الله أوصي بمالي كله؟، قال: لا، قلت: فالشطر؟ قال: لا، قلت: الثلث؟ قال: فالثلث، والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم، وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة حتى اللقمة التي ترفعها إلى فيّ امرأتك، وعسى الله أن يرفعك فينتفع بك ناس ويضر بك آخرون»، ولم يكن له يومئذ إلا ابنة(23).
فلم يجز الشرع في مثل هذه الحالة التصرف بأكثر من الثلث للمورث، وأبقى الثلثين حقاً للورثة، وبهذا جاء الحكم الشرعي ليوازن وبكل دقة بين حق المورث وبين حق الورثة، وفي هذا أعظم شاهد على روعة التشريع الإسلامي، ومراعاته للحقوق جميعها، كيف لا وهو تشريع إلهي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، منزل من إله حكيم في أفعاله وأقواله، عليم بحاجات العباد وما يصلح شئونهم في الدنيا والآخرة.
5. مراعاة العدالة بين جميع الورثة:
لقد شاء الله تعالى أن تكون قسمة الميراث قسمة إلهية لا دخل للعباد فيها، فتولاها سبحانه بكل رحمة وعدالة وحكمة، فتولي العباد لهذه القسمة سيدخل فيه الظلم والتخبط، وعدم إيصال الحقوق لأصحابها على الصورة التي تحقق العدالة والتوازن بين الورثة، ولذلك صدر الله هذه القسمة بلفظ الوصية؛ لبيان كمال رحمته وعدله، قال تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن﴾ [النساء: 11]، وفي تفسير هذه الآية يقول ابن كثير رحمه الله: قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن﴾ أي يأمركم بالعدل فيهم، فإن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكور دون الإناث، فأمر الله تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث، وفاوت بين الصنفين، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين؛ وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤونة النفقة والكلفة ومعاناة التجارة والتكسب وتحمل المشاق، فناسب أن يعطى ضعفي ما تأخذه الأنثى، وقد استنبط بعض الأذكياء من قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن﴾ أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالدة بولدها حيث أوصى الوالدين بأولادهم فعلم أنه أرحم بهم منهم(24).
وفي نفس الآية يقول تعالى: ﴿آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً﴾ [النساء: 11].
وفي تفسيرها يقول ابن جرير: لم يزل ذا حكمة في تدبيره وهو كذلك فيما يقسم لبعضكم من ميراث بعض وفيما يقضي بينكم من الأحكام لا يدخل حكمه خلل ولا زلل لأنه قضاء من لا تخفى عليه مواضع المصلحة في البدء والعاقبة. ويقول الواحدي: ﴿آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ﴾ في الدنيا فتعطونه من الميراث ما يستحق، ولكن الله قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم فأفسدتم وضيعتم ﴿إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما﴾بالأشياء قبل خلقها ﴿حَكِيماً﴾ فيما دبر من الفرائض(25).
ولذلك جاءت أحكام احترازية لمنع التلاعب في هذه الفرائض، ومنها منع الوصية بشيء لأحد من الورثة، فقد جاء في الحديث عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث»(26).
وفي هذا الحكم صيانة للحقوق، والمنع من طغيان وارث على وارث آخر، فكل واحد يأخذ ما يستحقه بلا زيادة، وهذا هو العدل والإنصاف، وخصوصاً إذا تعلق هذا الأمر بالأولاد، فعن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطيةً، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطيةً فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال:«أعطيت سائر ولدك مثل هذا»، قال: لا، قال: «فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم»، قال: فرجع فرد عطيته(27)، وفي جميعه مراعاة للعدالة بين جميع الورثة وخصوصاً بين الأبناء.
6. عدم توريث قاتل المورث:
في حديثنا عن مراعاة الشريعة للفطرة البشرية في قسمة التركة بين أقارب الميت، قلنا أن الإنسان يحب أن ينتقل ماله من بعده إلى أقاربه، وهذا قائم على المحبة الفطرية بين الأقارب.
لكن إذا تحولت هذه المحبة إلى عداوة تحمل الوريث على قتل قريبه والتخلص منه، فإنه يكون بذلك قد أفسد ما بينه وبين قريبه، وفي كثير من الأحيان قد يكون الدافع إلى ذلك هو استعجال الحصول على التركة بقتل مورثه الذي طال عمره، فإن هذا القاتل يستحق الحرمان من الميراث، ولذلك أجمع العلماء على منعه من الميراث، وجعلوا القتل من موانع الإرث، وفي هذا التشريع إعطاء كل ذي حق حقه، ومنع الحق عمن لا يستحقه، فالقاتل أفسد ما بينه وبين مورثه بقتله له، فاستحق الحرمان.
وكذلك الذي يستعجل الإرث بقتل مورثه فإنه يعاقب بخلاف نيته، وتطبق في حقه القاعدة الفقهية التي تقول: "من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه"، وفي هذا التشريع محافظة على روابط القرابة، وفيه أيضاً مكافحة للجرائم المتوقعة، وفيه أيضاً مراعاة للفطرة البشرية.
7. صياغة هذه الأحكام الدقيقة بأبسط عبارة وأقل كلمات:
كل الأحكام التي استنبطها العلماء في المواريث مرجعها إلى أربع آيات وثلاثة أحاديث كما سبق أن ذكرنا ذلك في أول البحث، وهذا إعجاز أيضاً يضاف إلى رصيد هذه النصوص الشرعية، فهي مع قلتها دلت على كل هذه الأحكام التي أفرد لها العلماء علماً قائماً بذاته وهو علم الفرائض (أو علم المواريث)، واستنبط منها العلماء هذه التشريعات العظيمة، وأقول جازماً بأنه لا يمكن لأي نص قانوني من وضع البشر أن يشتمل على كل هذه الأحكام الكثيرة- وهذا بغض النظر عن العظمة والدقة في هذه الأحكام-، وكل هذا يدل دلالة واضحة على إعجاز هذه النصوص لكل البشر حتى لو اجتمعوا لذلك، وصدق الله القائل: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ [الإسراء: 88].
خاتمة:
إن هذه بعض وجوه الإعجاز التشريعي في نظام الإرث الإسلامي، ولو أراد الواحد أن يزيد على ذلك، لوجد بغيته في كل حكم من أحكام المواريث، ونجد أن هذه الأحكام على كثرتها ليس فيها شيء من التناقض أو التصادم، ولا يمكن لأحد من البشر أن يأتي بأحكام كثيرة ولا يدخلها شيء من الاضطراب والتناقض، يقول الله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾.
وما هذا إلا دليل على أن هذا التشريع العظيم من عند الله تعالى الذي أحاط علماً بكل أحوال الخلق، وشرع المواريث وبناها على علمه المحيط بكل شيء، وعلى حكمته البالغة، قال تعالى: ﴿فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً﴾ [النساء: 11]، وستبقى هذه الأحكام الإسلامية في المواريث وسائر مناحي الحياة صالحة للبشر في كل زمان ومكان.
إعداد/ عادل الصعدي.
مراجعة: علي عمر بلعجم.
___________________
(1) سنن ابن ماجة2/ 723، برقم: 2138، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة 2/ 5، برقم: 1739.
(2) سنن أبي داود 2/ 745، برقم: 5090، وحسن إسناده الألباني في صحيح أبي داود 3/ 959، برقم: 4245.
(3) انظر تفسير الطبري3/ 604، وتفسير ابن كثير 1/ 604، وتفسير القرطبي 5/ 45، وتفسير البغوي 1/ 165.
(4) رواه البخاري6/ 2477، برقم: 6354، ورواه مسلم 3/ 1233، برقم: 1615.
(5) مسند أحمد 4/ 225، برقم: 18009، ومسند أبي يعلى 1/ 111، برقم: 120، وصححه بشواهده شعيب الأرنؤوط في تعليقه على مسند أحمد، وقال حسين سليم أسد في تعليقه على مسند أبي يعلى: رجاله ثقات.
(6) صحيح البخاري 4/ 1560، برقم: 4032، صحيح مسلم 3/ 1233، برقم: 1614.
(7) سنن أبي داود 2/ 140، برقم: 2911، وسنن الترمذي 4/ 424، برقم: 2108، وسنن ابن ماجة 2/ 912، برقم: 2731، وحسنه الألباني في صحيح الجامع 1/ 1358، برقم: 13572.
(8) الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي 2/ 6.
(9) الإعجاز التشريعي في المواريث للدكتور مازن هنية، ص504.
(10) انظر موقع: www.saafi.net، نقلاً عن كتاب: الإسلام ومبادؤه الخالدة.
(11) المرجع السابق، نقلاً عن موقف الإسلام من نظرية ماركس للتفسير المادي للتاريخ، للدكتور أحمد العوايشة.
(12) تفسير ابن كثير 2/ 434.
(13) تفسير الجلالين 1/ 549.
(14) الإعجاز التشريعي في المواريث للدكتور مازن هنية، ص507.
(15) المرجع السابق.
(16) تفسير الطبري 3/ 583.
(17) صحيح مسلم 2/ 886، برقم: 1218.
(18) "ميراث المرأة وقضية المساواة " د. صلاح الدين سلطان ص10
(19) ميراث المرأة لأم معاوية، نقلاً عن موقع: www.quranway.net.
(20) المرجع السابق.
(21) ميراث الأنثى نصف ميراث الرجل، للدكتور محمود حمدي زقزوق، نقلاً عن:
www.icsfp.com
(22) تفسير الجلالين 1/ 100.
(23) صحيح البخاري 3/ 1006، برقم: 2591، صحيح مسلم 3/ 1250، برقم: 1628.
(24) تفسير ابن كثير 1/ 607.
(25) تفسير الطبري3/ 616، وتفسير الوجيز للواحدي1/ 254.
(26) سنن أبي داود 2/ 127، رقم: 2870، سنن النسائي 6/ 247، برقم: 3641، سنن ابن ماجة 2/ 905، برقم: 2713. وصححه الألباني في صحيح أبي داود 2/ 554، برقم: 2494، وهو في صحيح الجامع برقم: 1788.
(27) صحيح البخاري 2/ 914، برقم: 2447.

No comments:

Post a Comment